
الحق في الخصوصية في العصر الرقمي
في ظل التحول المتسارع الذي يشهده العالم الرقمي، أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، تمسّ مختلف المجالات الشخصية، والمهنية، والاجتماعية، والسياسية على حد سواء. وقد أسهم هذا التطور التقني في إحداث نقلة نوعية في أنماط التواصل، وتداول المعلومات، وتقديم الخدمات العامة والخاصة، إلا أنه في المقابل أفرز تحديات غير مسبوقة تتعلق بحقوق الإنسان، وعلى وجه الخصوص الحق في الخصوصية الرقمية. فقد برزت الخصوصية الرقمية بوصفها إحدى القضايا الحقوقية المعاصرة الأكثر إلحاحًا وتعقيدًا، نتيجة التوسع الكبير في جمع البيانات الشخصية، وتتبع السلوك الرقمي، واستغلال المعلومات الحساسة من قبل جهات متعددة، تشمل الحكومات، والشركات الخاصة، والجهات الفاعلة غير الحكومية.
وعلى الرغم من أن العصر الرقمي قد مكّن الأفراد من فرص أكبر في التعبير، والوصول إلى المعلومات، والانخراط في الفضاء العام، إلا أن هذه الحرية غالبًا ما تكون مشروطة أو مُهدَّدة نتيجة ممارسات المراقبة الجماعية، وانتهاك خصوصية الأفراد بطرق مباشرة وغير مباشرة. وتكمن خطورة هذه الممارسات في توظيف أدوات تكنولوجية متقدمة مثل برامج التجسس، وتقنيات التعرف على الوجه، وتحليل البيانات الضخمة، في مراقبة النشاطات الرقمية، بما في ذلك المحادثات، والتصفح، والمواقع الجغرافية، دون علم الأفراد أو موافقتهم.
ويزداد الوضع تعقيدًا في الدول ذات الأنظمة السلطوية، حيث تُستغل هذه التكنولوجيا لتضييق الحريات، ورصد النشطاء، والمعارضين، والصحفيين، مما يجعل الحق في الخصوصية الرقمية ليس مجرد مسألة تقنية، بل قضية سياسية وحقوقية تمس جوهر الكرامة الإنسانية والحريات الأساسية. وفي هذا السياق، يُعد الحق في الخصوصية من الحقوق المكفولة بموجب المادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، والتي تنص على أن “لا يجوز تعريض أي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني لتدخل في خصوصيته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته”، كما تؤكد على “حق كل فرد في الحماية القانونية من هذا التدخل أو المساس”. وفي السياق ذاته، يتناول القرار 68/167 الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2014 مسألة حيوية، وهي “حق الخصوصية في العصر الرقمي”. حيث أكد هذا القرار على أهمية الحفاظ على حق الخصوصية في العصر الرقمي، كما حثّ الدول الأعضاء على اتخاذ التدابير اللازمة لحمايته.
وعلاوة على ذلك، تتحمّل الشركات الخاصة، خاصة تلك العاملة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات، مسؤوليات واضحة وفقًا لـمبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان (UNGPs)، التي تُلزم الشركات باحترام حقوق الإنسان، بما في ذلك الخصوصية، واتخاذ تدابير وقائية لمنع الإضرار بهذه الحقوق، وتقديم سبل الإنصاف عندما تقع الانتهاكات.
ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة لوضع أطر قانونية وطنية ودولية ملزمة، ومعايير حقوقية واضحة، تضمن التوازن بين استخدام التكنولوجيا من جهة، وحماية الحقوق والحريات الأساسية من جهة أخرى، مع التأكيد على مبدأ الشفافية، والمساءلة، وسيادة القانون.
الخصوصية الرقمية والإطار القانوني في عمان
فى عمان، يشكّل التوسّع المستمر في دور جهاز الأمن الداخلي (المخابرات)، إلى جانب الأجهزة الأمنية التابعة له أو المتعاونة معه، مصدر قلق متزايد فيما يتعلق بسلامة الأفراد وأمنهم الشخصي فى الفضاء الرقمي، سواء على مستوى حياتهم الخاصة أو المهنية. وقد تلقى المركز عددًا من البلاغات من أشخاص تم استدعاؤهم للتحقيق بطرق لا تستند إلى إجراءات قانونية سليمة؛ منها، على سبيل المثال، تلقي اتصال هاتفي من رقم مجهول، أو قيام أفراد من الجهات الأمنية بزيارتهم في أماكن عملهم ومطالبتهم، تحت الإكراه، بمرافقتهم إلى مقار التحقيق.
وخلال هذه التحقيقات، أفاد الأفراد بأنهم يفاجأون بمصادرة جميع أجهزتهم الإلكترونية، بما في ذلك الهواتف المحمولة، والأجهزة اللوحية، وأجهزة الحاسوب الشخصية، دون تقديم أي سند قانوني واضح. كما أشار البعض إلى أن أوامر المثول للاستجواب تتضمن توجيهات صريحة بإحضار كافة الأجهزة الإلكترونية الشخصية، وهو ما يُعدّ انتهاكًا لحق الخصوصية الرقمية ويثير تساؤلات جدّية بشأن الضمانات القانونية والإجرائية المتعلقة بحماية البيانات الشخصية في عمان.
في عام 2020، وبعد أقل من شهرين من تولّيه السلطة، أصدر السلطان هيثم بن طارق المرسوم السلطاني رقم 4/2020 القاضي بإصدار قانون جهاز الأمن الداخلي. تنص المادة (10) من هذا القانون على منح الجهاز صلاحيات مطلقة للاطلاع على معلومات أي فرد، إذا قُدّرت تلك المعلومات على أنها “ضرورية أمنيًا”، دون تحديد واضح لمعيار الضرورة أو الرقابة على هذا التقدير، إذ تُترك سلطة تحديد مدى الضرورة وتقييمها للجهاز ذاته. كما تمنح المادة (11) الجهاز الحق في ممارسة “سلطة الرقابة والتحري” بكافة الوسائل المتاحة، مع التأكيد على عدم جواز إخضاع هذه السلطة لأي شكل من أشكال الرقابة المؤسسية، سواء من جهات أمنية أو قضائية، إلا بأمر مباشر من السلطان.
وفى خطوة أخرى تُوسّع من نطاق الرقابة على الأفراد وخصوصياتهم الرقمية، صدر المرسوم السلطاني رقم 64/2020 بإنشاء مركز الدفاع الإلكتروني، والذي ينص نظامه، في المادة الأولى، على أن يرأسه رئيس جهاز الأمن الداخلي نفسه. وعلى الرغم من تقديم المركز في نظامه على أنه جزء من “استراتيجية وطنية للدفاع الإلكتروني”، إلا أن تداخله مع قانون جهاز الأمن الداخلي يمنحه صلاحيات رقابية واسعة، بما في ذلك القدرة على اختراق الأجهزة الإلكترونية الخاصة بالأفراد أو حتى المؤسسات، تحت مبررات تتعلق بحماية أمن الدولة والنظام العام.
وتؤكد المادة (6) من الفصل الثاني، المعنون بـ”أهداف واختصاصات المركز”، على هذه الصلاحيات الواسعة، حيث تتيح للمركز اتخاذ الإجراءات الفنية اللازمة لرصد ومعالجة التهديدات، دون اشتراط موافقة قضائية أو إشراف خارجي، الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول مدى اتساق هذه التدابير مع المبادئ الأساسية للحق في الخصوصية، وسيادة القانون، والضمانات الإجرائية.
تسهم قوانين أخرى في سلطنة عمان في ترسيخ الرقابة الذاتية لدى الأفراد فيما يتعلق بتواصلهم مع الآخرين أو استخدامهم لمنصات التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي بشكل عام. فقد أُدين عدد من النشطاء والمغردين والكتّاب استنادًا إلى منشوراتهم أو مقالاتهم، بالاعتماد على نصوص قانونية واردة في قانون الجزاء العماني، لاسيما المواد (97)، (102)، (108)، و(115)، بالإضافة إلى المادة (19) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. وتشير شهادات العديد من الأفراد الذين تم استدعاؤهم أو خضعوا للتحقيق إلى أن الأسئلة التي وُجهت إليهم تمحورت حول تواصلهم مع أشخاص أو جهات داخلية وخارجية، بناءً على مراقبة أجهزتهم الإلكترونية والتطبيقات المستخدمة فيها.
وبناءً على ما سبق، يتّضح أن الحق في الخصوصية الرقمية في عمان يتعرض لانتهاك ممنهج، ليس فقط من خلال الممارسات الأمنية، بل أيضًا من خلال التشريعات القائمة التي تضفي غطاءً قانونيًا على هذه الانتهاكات. إذ تمنح هذه القوانين الأجهزة الأمنية سلطات واسعة في مراقبة نشاط الأفراد الرقمي، وفرض عقوبات عليهم، مثل حظر استخدامهم لمواقع التواصل الاجتماعي، أو تعرضهم للاعتقال والسجن، إذا ما اعتُبر نشاطهم الرقمي مخالفًا للقانون أو مهددًا “لهيبة الدولة”، وفقًا لتفسير الجهات الأمنية.