
الاستخدام المنهجي للأساليب النفسية والاجتماعية لإسكات النشطاء في عُمان
إعداد: المركز العُماني لحقوق الإنسان والديمقراطية (OCHRD)
تعمد الأجهزة الأمنية العُمانية إلى استخدام وسائل نفسية واجتماعية لإسكات النشطاء والمنتقدين لسياسات الحكومة، بالتزامن مع الأساليب الأمنية التقليدية مثل الاعتقال، والإخفاء القسري، والتعذيب. وإذا كانت هذه الأساليب الأمنية مباشرة ومؤقتة، فإن الأساليب النفسية والاجتماعية أكثر استمرارية، لما لها من طبيعة خفية وأثر معنوي طويل الأمد. فهي تمس شخصية الناشط وتترك أثراً دائماً في نفسه.
تقوم السلطة بزرع حواجز نفسية من الخوف، والقهر، والشك، والرقابة الذاتية، ترافق الناشط حتى بعد الإفراج عنه، فتعيقه لسنوات طويلة عن ممارسة أي نشاط أو تبنٍ لفكر مخالف للسلطة، فضلاً عن التعبير عنه علنًا، رغم أن ذلك يُعد جزءًا أصيلاً من الحق في حرية الفكر والتعبير.
وقد رصد المركز العديد من الشواهد التي تُجسّد منهجية جهاز الأمن في التعامل مع النشطاء السلميين، من أبرزها:
- استدعاء الناشط للحضور إلى مقر قيادة القسم الخاص في القرم، مع إشراك ذويه أو أقاربه في الأمر لإبلاغهم بالاستدعاء، أو في أحيانٍ أخرى يتم اعتقاله مباشرة من مقر سكنه أو من مكان عام.
- حرمان الناشط خلال فترة التحقيق من التواصل مع العالم الخارجي أو مع محامٍ، بهدف إضعافه نفسيًا، وإشعاره بالعجز التام أمام سلطة الدولة، ليُدرك أن تبنّيه نهجًا إصلاحيًا لا يُعفيه من بطش السلطة، وأن لا أحد قادر على حمايته أو دعمه.
- يُوضع النشطاء خلال فترة التحقيق في زنازين انفرادية ضيقة، مع استخدام الإضاءة المفرطة أو الأصوات المزعجة كوسائل ضغط نفسي تهدف إلى التأثير على حالتهم النفسية وكسر إرادتهم.
- يُنقل المعتقل في بعض الحالات إلى مصحة نفسية وهو مقيّد، ويُجبر على “التعاون” من أجل استخراج عذر طبي، وذلك عبر تشخيصه بمرض عقلي، بحجة “تخفيف إجراءات التحقيق” أو “حفظ القضية لدى الادعاء العام بدلًا من إحالتها إلى المحكمة”، والاكتفاء بفترة الحبس الاحتياطي دون محاكمة.
- يُخضع الناشط لاختبارات نفسية تهدف إلى تحليل شخصيته وكشف سماته النفسية، كجزء من استراتيجية أوسع للسيطرة عليه واستغلال نقاط ضعفه.
- تُستخدم نتائج التشخيص النفسي خلال فترة الاحتجاز في نشر الشائعات ضمن الدائرة الاجتماعية القريبة من الناشط، كأداة لاغتيال شخصيته وتشويه سمعته، مما يؤدي إلى عرقلة حياته المهنية والاجتماعية. ويتزامن ذلك مع استهداف نفسي وعائلي ومجتمعي ممنهج، يهدف إلى عزله وإضعافه على مختلف المستويات.
وعلى الرغم من أن هذه الانتهاكات قد تبدو في ظاهرها عشوائية أو مجرد سلوكيات تعسفية لإلحاق الأذى، إلا أن تحليل الحالات الحقوقية المتكررة في سلطنة عمان يُظهر أن أساليب القمع المعتمدة مدروسة بعناية. إذ تسعى السلطة إلى إيقاع أذى طويل الأمد بكل ناشط، بشكل يتناسب مع خصوصية حالته، بهدف إنهاكه نفسيًا واجتماعيًا ومهنيًا، ليصبح مشغولًا بنفسه، عاجزًا عن التفاعل مع الشأن العام أو مواصلة نشاطه الحقوقي.
كشف تحقيق أجراه المركز بالتعاون مع عدد من المتضررين عن ممارسات جهاز الأمن الداخلي في سلطنة عمان، أن الأشخاص يُعتقلون من قِبل الجهاز ويُحتجزون بذريعة التحقيق في أحد معتقلاته. ثم يُحوَّل المحتجز إلى مستشفى “المسرة” للأمراض النفسية، حيث يُعامل كمريض نفسي، وتُصدر بحقه تقارير طبية تُصنّفه كمصاب باضطرابات عقلية.
وخلال فترة هذا الاحتجاز، يُخضع الناشط لعدة اختبارات نفسية تهدف إلى تحليل شخصيته واكتشاف نقاط الضعف فيها. كما تستغل السلطة ما تملكه من معلومات شخصية عنه، لوضع خطة اضطهاد مصمّمة خصيصًا لحالته، تضمن استمرار تأثير القمع حتى بعد الإفراج عنه، إذ يُبقيه هذا الضغط منشغلاً بنفسه، غير قادر على العودة للعمل الإصلاحي أو الحقوقي.
يتم الإفراج عن الناشط بكفالة أحد أقاربه، على أساس مزاعم فقدانه للأهلية العقلية والقانونية، مع إلزام الكفيل بتعهد صارم يضمن عدم عودة قريبه “المذنب” إلى انتقاد الحكومة. وبهذه الإجراءات، لا يتحسن وضع الناشط بعد الإفراج، بل يظل خاضعًا لرقابة اجتماعية وقانونية خانقة.
وبحسب أبحاث ومتابعات فريق المركز، فإن أجهزة الدولة تعمل على التنسيق مع أهالي المعتقلين من خلال التهديد والإقناع بأنهم سيتحملون المسؤولية كاملة إذا ما عاد الناشط إلى التعبير العلني. وفي حال تكرار النشاط أو الكتابة، تلجأ السلطات العمانية – بالتعاون مع ذوي المعتقل – إلى خيار “الحجر القانوني”، وهو إجراء قضائي يمنع الناشط من التصرف بشخصه، ويحرمه من حق استخراج الوثائق الرسمية، بما في ذلك جواز السفر، كما يمنعه من السفر أو الحركة خارج نطاق وصاية الولي القانوني. وتُعد هذه الممارسة بمثابة حكم بالإعدام الفكري والاجتماعي، تُستخدم لإسكات الأصوات الناقدة ومحو أي تعبير مستقل عن الرأي.
هذا ومن الجدير بالذكر، أن القوانين العُمانيةتُتيح لمنتسبي جهاز الأمن الاطلاع الكامل على المعلومات والبيانات المتعلقة بالنشطاء، حيث يمنح قانون جهاز الأمن الصادر بموجب المرسوم السلطاني رقم 4/2020 بتاريخ 20 مارس 2020، سلطات واسعة وغير مقيّدة لأفراد الجهاز. تنص المادة (10) من القانون على ما يلي:
“للجهاز الاطلاع على أي معلومات أو بيانات من أي شخص طبيعي أو اعتباري إذا قُدّر أنها ذات أهمية أمنية.”
كما تنص المادة (11) على أن:
*”للجهاز، في سبيل مباشرة اختصاصاته المقررة بموجب هذا القانون، سلطة الرقابة والتحري بكافة الوسائل المتاحة، ولا يجوز إخضاع هذه السلطة لأي رقابة إلا بأمر من جلالة السلطان.”
تمنح هذه النصوص القانونية منتسبي الجهاز صلاحيات مطلقة تُمكّنهم من ارتكاب انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، بما في ذلك اغتيال النشطاء فكريًا واجتماعيًا، دون أي شكل من أشكال الرقابة المؤسسية أو القضائية. وبهذا، يُشكّل قانون جهاز الأمن مظلة قانونية تُبرّر وتُشرعن ممارسات خطيرة مثل:
- الاعتقال التعسفي للنشطاء السلميين استنادًا إلى تُهم فضفاضة؛
- التجسس على الأفراد، وانتهاك خصوصيتهم الرقمية والشخصية؛
- عرقلة المسارات المهنية للنشطاء؛
- ابتزاز أصحاب الرأي عبر التهديد بالعواقب القانونية لنشاطهم السلمي
هذه الممارسات لا تُشكّل فقط انتهاكًا للحقوق الدستورية الأساسية، بل تُخالف أيضًا المعايير الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تُعد سلطنة عمان طرفًا فيه.
في ضوء ما سبق، يتّضح أن السلطات العُمانية تمارس هذه الأساليب ضمن إطار منهجي موحّد، يُطبّق على أغلب النشطاء، مع اختلاف في التفاصيل تبعًا لكل حالة. إذ يتم بعد الإفراج عن الناشط التركيز على نقاط ضعفه النفسية أو الاجتماعية، لإبقائه خاضعًا لرقابة داخلية دائمة، تجعله يعيش حالة من القيود غير المرئية، بالرغم من كونه خارج السجن.
تؤدي هذه الممارسات إلى أن يعيش الناشط السابق في دوائر متشابكة من التضييق والمراقبة الذاتية والخوف، تستمر لسنوات بعد إطلاق سراحه، وتمنعه من العودة إلى أي نشاط حقوقي أو سياسي. وعلى الرغم من ادعاء السلطات أن هذا الشخص “حر طليق”، إلا أن واقعه يعكس حالة من الاغتيال المعنوي والاضطهاد النفسي والاجتماعي المستمر، تهدد ليس فقط حريته الفكرية، بل أيضًا استقراره النفسي وحياته الطبيعية.
وفي الختام، يؤكد المركز أن أصحاب الفكر الحر هم طليعة المجتمع وضميره الحي، وعليه، يدعو المركز السلطات العُمانية إلى وقف جميع الانتهاكات الممنهجة ضد أصحاب الرأي، وضمان حقهم في حرية الفكر والتعبير كما تكفله المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والدستور العُماني نفسه.